بقلم: الدكتور عبدالقادر سليم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على البشير النذير السراج المنير الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه حق قدره ومقداره العظيم.. وبعد ،،،
فمما لا شك فيه أن نعمة الأمن والاستقرار من أجل النعم التي امتن الله (عز وجل) بها على عباده، فماهو السند الشرعي على أهمية نعمة الأمن في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ؟ وهل هناك ربط بين الأمن والإيمان والرزق؟ وكيف نحافظ على نعمة الأمن في بلادنا الغالية ؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه من خلال هذا المقال ؟
أولاً: الأمن في القرآن والسنة:
الأمن مصدر أمِن يأمن، أي: اطمأنَّ وزال خوفُه، وسكن قلبُه، وأمِن البلدُ: اطمأنَّ به أهلُه فهو آمِن وأمين، قال سبحانه: ” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ” ، وحقيقة الأمن هي طمأنينة النفس، وسكينة القلب، وزوال الخوف، وقد أكد ذلك القرآن والسنة.
يقول سبحانه وتعالى ممتنًّا على قريش: “لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”.
ويقول سبحانه وتعالى ممتنًّا على مكة وأهلها: “أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”.
ويقول سبحانه: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَما آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ”.
ويقول سبحانه: “وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”.
ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”.
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى قد قدم في هذا الحديث نعمة الأمن على نعمتي الصحة والرزق للتأكيد على أهمية هذه النعم وضرورة الحفاظ عليها ، وعبر (صلى الله عليه وسلم) بالأمن في قوله : “آمِنًا فِي سِرْبِهِ” للتأكيد على الحفاظ على نعمة الدار حتى لو كان في مجرد سرب أو شق أو نفق.
ويقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: “وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ. قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قال: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ” . فالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يؤكد على تحقيق نعمة الأمن والأمان بين الجيران، والأمر يصبح شنيعًا جدًا إذا أصبح الجار لا يأمن على نفسِه، ودينِه، وعرضِه، ومالِه من جاره.
وهناك أحاديث كثيرة تنشر ثقافة الأمن ومعانيه في التعامل بين الناس، فتدعو إلى إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتبسم في وجوه الناس ومصافحتهم، وتدعو إلى تفريج الكربات، والتيسير على المعسر، ومساعدة المحتاج، والتعاون على الخير، وتدعو إلى التَّحاب، والتراحم، والرفق بالضعيف، والتوقير للكبير، وصلة الأرحام، والتخلُّق بالأخلاق الفاضلة.
وتنهى عن أضداد هذه الصفات؛ من التهاجر، والتحاسد، والفظاظة، والتباغض، وسوء الظن، والغيبة، والنميمة، وتنهى عن كل الأخلاق القبيحة التى تؤدى إلى عدم الأمن والأمان في المجتمعات .
ثانياً: ربط القرآن الكريم بين الأمن والإيمان والرزق:
لقد ربط القرآن الكريم بين الأمن والإيمان، والحفاظ على هذه النعمة وعدم جحودها أو إنكارها أو نكرانها، أو الخروج على مقتضيات الحفاظ عليها، فيقول الحق سبحانه: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ”.
ويقول سبحانه أيضاً: “لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ”.
ويقول سبحانه: “وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ”.
فافتقاد الأمن يتبعه افتقاد كل شيء، فلا اقتصاد بلا أمن، ولا استثمار بلا أمن، ولا حياة بلا أمن، فقد تحدث القرآن الكريم عن الأمن والرزق وربط بينهما في الآية الأخيرة ، فلما كانت القرية آمنة مطمئنة يتعاضد أبناؤها في الحفاظ على أمنها كان يأتيها رزقها رغدًا وفيرًا هانئًا من كل مكان, فلما كفرت بأنعم الله (عز وجل) عليها وجحدتها أذاقها الله (عز وجل) لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وهذا نبي الله إبراهيم (عليه السلام) يدعو ربه أن يجعل له ولذريته حرمًا آمنًا وأن يرزق أهله من الثمرات, فيقول: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ”.
إن العلاقة بين الأمن والرزق وتوفير المناخ الملائم للاستثمار والعمل والإنتاج علاقة طردية ، فمتى تحقق الأمن والأمان والاستقرار تبعه النمو والاستثمار والعمل والإنتاج واتساع أسباب الرزق ، ومتى كانت الحروب ، أو التطرف والإرهاب ، والتخريب والتدمير ، والفساد والإفساد ، كان الشتات والفقر ومشقة العيش وصعوبة الحياة ، لذلك كان من دعاء حضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم) مع كل هلال أن يهله على المسلمين بالأمن والسلام، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر. اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ربنا ويرضى. ربنا وربك الله».
ولنا في الحاضر من حولنا عبرة ومتعظ بحال تلك الدول التي سقطت في براثن الفوضى والتفكك، والتشرذم والتمزق، ما بين لاجئ متعرض لمخاطر لا تحصى ولا تعد، ومشرد، أو قتيل، أو مصاب، أو مقعد، أو مشوه، أو عاجز، حيث رأينا الإرهابيين المجرمين يستغلون حالة الفوضى والتفكك هذه ويتجاوزون كل حدود الإنسانية في الفتك والتنكيل بالبشر من الحرق والسحل، والسبي والاغتصاب، والاستعباد، وحمل الناس على حفر قبورهم بأيديهم، مما يدعونا وبقوة إلى الحفاظ على ما أنعم الله (عز وجل) به علينا من أمن وأمان واستقرار في مصرنا الغالية .
ثالثاً: كيف نحافظ على نعمة الأمن ؟
والحفاظ على هذه النعمة يحتاج منا إلى عدة أمور منها ما يلي:
أولاً : شكر الله (عز وجل) عليها، حيث يقول الحق سبحانه: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”، والشكر ليس في المال فحسب، وإنما في سائر النعم .
ثانياً: وحــدة الصــف، وإدراك حجـم التحـديــات التــي تواجهنـا، والأخذ بقوة على أيدي دعـاة القتـل والاغتيـال وسفك الدمـاء والفوضى والتخريب.
ثالثاً : التضحية في سبيل الله والوطن ، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله”، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “أَلا أُنَبِّئُكُمْ بليلةٍ أفضلَ من ليلةِ القدرِ؟ حارِسُ الحَرَسِ في أرضِ خَوْفٍ لعلَّهُ ألَّا يرجعَ إلى أهلِهِ”.
رابعاً : تعميق وترسيخ الولاء والانتماء الوطني، والاعتزاز بالوطن والاستعداد لفدائه بالنفس والنفيس مع الشعور بفضله، والحفاظ على ترابه وثراه، والتأكيد على أن الوطنية ليست نقيضًا للدين أو مقابلا له، بل هي من صلب الدين، وهذا نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول مخاطبًا مكة المكرمة: “مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ”.
وفيما رواه الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: “عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ ، وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”، وظل (صلى الله عليه وسلم) يصوب نظره إلى السماء آملا أن يرده الله (عز وجل) إليها ردًّا جميلا، ولو بالتحول تجاهها في صلاته، حتى نزل قول الله تعالى: “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ”.
خامساً: الأمن لا يتحقَّق إلاَّ بتحقَّق خمسةِ مقاصد (حفظ الدِّين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال).
إذ أنها تُمثِّل مُجتمِعَةً الوسائلَ والإجراءات التي إذا تمَّ تطبيقُها واقعًا عمليًّا في حياة الناس لكان الأمن نتيجة طبيعية، ذلك لأنَّ جميع الجرائم مَرَدُّها إمَّا إلى الدِّين أو الشهوة أو المال، وقد وضعت الشريعة ما يُمَكِّن من حفظ الدِّين ويحمي حريَّة الاعتقاد، ثمَّ حرَّمت الزنا وغيرَه ممَّا يتعلَّق بالتَّعدِّي على الأنساب والأعراض، ثم حرَّمت التَّعدِّي على الأموال وأكلَها بالباطل، وضَمِنَت حفظَ النفس وصيانتَها من القتل والتَّعدِّي فكان القصاص، ومن ثَمَّ إذا سُدَّت السُّبل والطرق إلى ارتكاب هذه الجرائم لِمَا وضعته الشريعة من إجراءات ورتَّبته من عقوبات في الدنيا والآخرة، فالأمن سوف يتحقَّق لأنَّ الناس سيأمنون على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وكأنَّ هذه المقاصد الخمسة إنما وُضِعَتْ لضمان أمن الناس وسلامتهم، وهذا من عظمة الشريعة الإسلامية وتكاملِها، واتِّساع نظرتِها.. وهذه المقاصد الخمسة يمكن دمجها جميعًا في عنوان جامع وشامل؛ وهو (الأمن)، فالأمن هو النتيجة الحتمية لتحقيقها، كما أنه الهدف الأساس من تشريعها.
وختاما نؤكد أن الحفاظ على أمن الوطن وأمانه مطلب شرعي ووطني ، نسأل الله تعالى أن يحفظ مصر وأهلها وأن يجعلها في أمانه وضمانه واحة للأمن والأمان والاستقرار، اللهم امين.
الدكتور/ عبد القادر عبد الله سليم
مدير عام الدعوة بأوقاف كفرالشيخ.